Thursday, December 14, 2017

المراقبة

الحمد الذي لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السموات والأرض تحركت أو سكنت، المحاسبُ على النَّقِير والقِطْميرِ والقليلِ والكثيرِ من الأعمال وإِنْ خَفِيت، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء و آله الأصفياء وأصحابه الأتقياء. أما بعد؛
فإن أرباب البصائر من جملة العباد يعلمون  أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ، وَأَنَّهُمْ سَيُنَاقَشُونَ فِي الْحِسَابِ، وَيُطَالَبُونَ بِمَثَاقِيلِ الذَّرِّ مِنَ الْخَطَرَاتِ واللحظات، وتحققوا أنه لَا يُنْجِيهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأَخْطَارِ إِلَّا لُزُومُ الْمُحَاسَبَةِ وَصِدْقُ الْمُرَاقَبَةِ وَمُطَالَبَةُ النَّفْسِ فِي الْأَنْفَاسِ وَالْحَرَكَاتِ وَمُحَاسَبَتُهَا فِي الْخَطِرَاتِ وَاللَّحَظَاتِ، والمراقبة: أن تعلم علم اليقين أن الله مطلع عليك في كل أحوالك.
قال تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»([1]). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: الإحسان: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ »([2]).
فاعلم أخي الكريم، وأختي الكريمة، وأبنائي وبناتي الكرام، أنه بعد سماعِ هذه النصوص على المؤمنِ الحقِّ، الطالبِ رضا ربِّهِ، والمقتدي هَدْيَ نبيِّهِ، والسَّالِكِ طريقَ أَوليائِهِ -أن يحاسب نَفْسه عَلَى مَا سلف، ويُصلحَ حالَه فِي ما هو آت، ويُلازمَ طريقَ الحقِّ، ويُحسنَ بينه وبين اللَّه تَعَالَى؛ حتى يترسَّخَ في قلبه أَنَّهُ سبحانه عَلَيْهِ رقيبٌ، ومن قلْبِه قريبٌ، ويعلم أحواله، ويرى أفعاله، ويسمع أقواله([3]).
كَانَ بَعْض المشايخ لَهُ تلامذة فكان يخص واحدا مِنْهُم بإقباله عَلَيْهِ أَكْثَر مِمَّا يُقبل عَلَى غيره فسألوا عن ذَلِكَ فَقَالَ: أبين لكم فدفع إِلَى كُل واحد من تلامذته طائراوَقَالَ لَهُ: اذبحه بحيث لا يراه أحد ودفع إِلَى هَذَا أَيْضًا فمضوا ورجع كُل واحد مِنْهُم وَقَدْ ذبح طائره وجاء هَذَا بالطائر حيا فَقَالَ: هلا ذبحته فَقَالَ: أمرتني أَن أذبحه بحيث لا يراه أحد وَلَمْ أجد موضعا لا يراني فِيهِ مولاي وخالقي؛ فَقَالَ الشيخ: لِهَذَا أخصه بإقبالي عَلَيْهِ.
ومن لم يلتفت لهذا العرفان، وآيات القرآن، وسلك طريق الشيطان؛ فخطره عظيم وعذابه أليم، أين هو من قول الله عز وجل «يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ»، وأين هو من حديث ثوبان؛ فعَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا» ، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا»([4]).
إخواني جميعًا... الدنيا راحلة مدبرة، والآخرة مقبلة آتية، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل. فَمَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ خَفَّ فِي الْقِيَامَةِ حِسَابُهُ، وَحَضَرَ عِنْدَ السُّؤَالِ جَوَابُهُ، وَحَسُنَ مُنْقَلَبُهُ وَمَآبُهُ، وَمَنْ لَمْ يُحَاسِبْ نَفْسَهُ دَامَتْ حَسَرَاتُهُ وَطَالَتْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ وَقَفَاتُهُ وَقَادَتْهُ إِلَى الخزي والمقت سيئاته،  ولا يغرنك عدم مراقبة أحدٍ من الخلق- أيا كان هو –فتفعل بفعله فيجرك إلى غضب الله وعقابه ، بل كن الناصح له وجادله بالتي هي أحسن وادع له بالتحسين، واحرص على أن يكون من الناجين، كحرصك على أن تكون بعيدا من الهالكين، وكن كبنت بائعة اللبن.
مرَّ سيدنا عمر بن الخطاب-  رضي الله عنه -بامرأة تريد من ابنتها أن تخلط اللبن بالماء سمع ابنتها تقول لها: إن أمير المؤمنين نهى عن ذلك! فقالت: وأين أمير المؤمنين؟ إنه لا يرانا. فقالت البنت: ولكن الله يرانا. فكان عاقبتها- في الدنيا -الزواجَ من ابن أمير المؤمنين، وحفيدها سيدنا عمر بن العزيز، وفي الآخرة فوزٌ ونجاةٌ وجنةٌ ورضوانٌ.
هذا والحمد لله في بدأ وفي ختم.




[1].  المجادلة: 7.
[2].  صحيح البخاري (1/ 19)، صحيح مسلم (1/ 37).
[3] الرسالة القشيرية (1/ 329).
[4].  سنن ابن ماجه (2/ 1418)

انصر به قدسنا يافارج الكرب

قال المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: «.....إِن من وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْر فِيهِنَّ كَالْقَبْضِ عَلَى الْجَمْر لِلْعَامِلِ مِنْهُم أجر خمسين رجلا يعْملُونَ مثل عمله». 


تخريج الحديث:

[قَالَ ابْن الْمُبَارك وَزَادَنِي غير عتبَة قيل يَا رَسُول الله أجر خمسين رجلا منا أَو مِنْهُم قَالَ لَا بل أجر خمسين رجلا مِنْكُم انْتَهَى قَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن غَرِيب انْتَهَى. وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه فِي النَّوْع وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه فِي كتاب الرقَاق وَقَالَ صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الْإِيمَان وَابْن رَاهَوَيْه فِي مُسْنده وَأَبُو يعْلى(1)].


في الحديث إشارات: منها التنبؤ بقوع البلاء ومنزلة التحلي بالصبر وإعلاء شأن الإصلاح، ولا شك أن للشدة فوائد يقول أحمد أمين: «الأمم لا تـــُـخلق إلا من المصائب، ولا تحيا إلا بالموت،ولا يصهر نفوسها إلا عظائم الأمور». وهذه بشرى قائد الأمم (لِلْعَامِلِ مِنْهُم أجر خمسين رجلا يعْملُونَ مثل عمله) فيا أمة الإسلام اجتمعوا بارك الله فيكم، ولا وقت إلا للعمل كل في ميدانه الرئيس في ديوانه والعالم في جامعته والأستاذ في مدرسته والشيخ في محرابه والجندي في كتيبته والضابط في شرطته العامل في مصنعه والزارع في حقله والموظف في هيئته .. الكل يقوم بواجبه .. لكن عليكم بتحريك هذه الدوائر بالحب والود وهنيئا لمن أعان أخاه على الحب.
يا رب بالمصطفى بلغ مقاصـــــــدنا **واغفر لنا ما مضى يا واسع الكرم واغفر إلهي لكل المسلميـــــــن بمــــا**يتلوه في المسجد الأقصى وفي الحرم  فرج به كربنا ياواسع الكرم**انصر به قدسنا يافارج الكرب




-------------------
[1] (الزيلعي في تخريجه على الكشاف).